الجمعة، 17 يناير 2014

ال recommendoma نمط حياة

ال recommendoma مصطلح طبي، يُقصد به ما يحدث من تعقيدات طبيّة خطيرة فى حالات بسيطة، فقط لكون المريض محل توصية.
كلّنا - كأطبّاء - مررنا بحالات مماثلة بشكل أو بآخر، عندما يكون المريض أحد أقاربك أو صديق عزيز، أو حالة تابعة لأحد زملائك، فلابد أن تتعقد الحالة مهما كانت بساطتها لتتركك كالأحمق فى نظر نفسك قبل مريضك. ولهذا ،فقد كان هاجس ال recommendoma هو السبب الأساسي فى عزوفي عن معالجة أسنان أبي - إضافة إلى تأخر حالة أسنانه ودرامية تبعات فشل العلاج لو حدث - أو أمي أو أيا من إخوتي.

بعد انتهاء علاقتي الآثمة بطب الأسنان، بدأت استيعاب عدم اقتصار ظاهرة الrecommendoma على التدخل الطبي فى حيوات الآخرين، الأمر يكاد يُصبح قاعدة قابلة للتعميم، كلّما كان الأمر مُهما وحرجا كلما تضاعفت احتمالات تعقّدُه وفشله.
السترة المفضلة لديك هي أيضا المفضلة لكل المسامير والزوائد الحادة وأعقاب السجائر التي تمر بها يوميّا .. الأيام التي تتعجل فيها الوصول هي أكثر الأيام ازدحاما وأقلّها فى فرص العثور على مواصلة مناسبة، العلاقات الأهم هي الأكثر وَهَنا والأقل استقرارا، والأكثر عرضة للانتهاء نهايات درامية فاجعة. والتزاماتك المادية تتضاعف تلقائيا فى الفترات التي يقل فيها دخلك - هذا إذا كنت محظوظا بالقدر الكافي فلم تفقد عملك.

الأمر يمكن تفسيره بشيئين، أولهما - وهو منطقي نوعا - الارتباك، الارتباك المضاعف أثناء معالجة شخص مهم كافٍ لجعلك ترتكب أخطاء سيتحاشاها أكثر المبتدئين حُمقا. الارتباك الزائد فى التعامل مع شىء أو موقف بعينه يُخرج الأحمق الكامن بداخلك فتزداد الأمور تعقيدا. أما الثاني - وهو ما أعتقد فيه شخصيا - هو الحتمية.. الأمر يشبه لعنة ما لا يمكن تحاشيها، والأسوأ أن تأثيرها - مثل كل اللعنات - يتناسب طرديا مع إيمانك بها.

لفترة لا بأس بها، كنت أظنها مسألة شخصية، أنا إنسانة منحوسة وهذا كل ما في الأمر، ولكن، بنظرة بسيطة للحال العام، لاحظت مدى تحقق النظرية على كل شىء، وعلى هذا، فلم تكن تداعيات ثورة يناير، ذلك المستنقع الذى نغرق فيه من قرابة الأربعة أعوام، سوى حالة ريكومندوما واسعة المدى، ريكومندوما قومية إن جاز التعبير.. فالأمور تزداد سوءا مع كل خطوة، يتناسب مدى سوءها مع أهمية الحدث والمرحلة، فتجد من الطبيعي أن يكون أول حكم بعد الثورة هو حكم العسكر، ومن المنطقي أن يكون أول رئيس مدني منتخب هو أحمق القرية "مرسي العيّاط" ، ومن البديهي أن يكون البرلمان الأول بهذا السوء، وواسطة العقد، الانقلاب الأول على أول رئيس مدني منتخب ينتهي إلى تلك النهاية التي نعيشها حاليا، والتي فاقت الأساطير الإغريقية في التراجيديا واللامنطقية.

الحل؟ لا حل هنالك، شخصيا كنت أتفادى المرضى المُوصّى عليهم حتى تركت المجال تماما، وكنت أتعامل مع الأشياء - كل الأشياء - بلامبالاة من يخشى الفقد فيتجنب الامتلاك، وكان ربنا بيسترها، ربما لو تعامل الجميع بذات اللامبالاة مع واقعنا العبثي لتحسنت الأمور قليلا، وربما انكسرت لعنة الريكومندوما .

الاثنين، 13 يناير 2014

لا تفسدوهن يا أناندا، لا تشوّهوهن يا أناندا

الكتيب الأول : أسطورة آكل البشر
المكان : مدرسة أبوزهرة الإسلامية - أحد فصول المرحلة الابتدائية 
الزمان : على الأرجح كنّا فى الصف الخامس الابتدائى - على الأرجح كانت حصة دراسات اجتماعية ..

فى اعتقادى الشخصي، ومن خلال متابعة المقالات المتعلقة بالموضوع وتعليقات المُهتمين، كانت البدايات متشابهة إلى درجة مثيرة، باختلاف طفيف فى الأعداد والأماكن ، جميعا تعرفنا إلى هذه السلسلة فى بدايات المراهقة، كلّنا تداولناها بحرص فى الحصص المملة وفى ليالي المذاكرة المرهقة .. كلّنا تشربناها بذات الشغف، وكلّنا تساءلنا فى مرحلة ما "هل دكتور رفعت شخصية حقيقية؟" وتابعنا فى حيرة إجابة د.أحمد خالد توفيق المُبهمة عن عدم جدوى التساؤل، وإفساده للمتعة، وتوصلّنا للحقيقة تدريجيا وتقبلناها.

مضت السنوات فى مصر-أخشى- من سىء إلى أسوأ، العالم كما كنّا نعرفه -عن جيل الثمانينات أتحدّث- يتلاشى تماما، للدقة هو يخضع لعملية تشويه ، يتسارع ايقاعها يوما بعد الآخر وتزداد حدّتها، ويمكننا القول أن نبأ "موت رفعت اسماعيل" كان فاجعة جديدة تضاف لهذا كلّه ..ربما هذا ما يقوله د.خالد لنفسه وهو يغتال أحب شخصياته إلى قلبه على الورق، ببساطة، أردتم كهلا حقيقيا يروى قصص الرعب، وكان لكن ما أردتم، خمنوا ماذا؟ الكهول يموتون.. هذا ما يفعلونه عادة.. لا شىء من هذا يخيف ولا مفاجأة هنالك*. وهاهى قضمة كبيرة من مراهقة الجميع تتلاشى، صدع جديد فى المساحة الضيقة المتبقية من أرضية مشتركة كنّا نقف عليها يوما يتركنا أكثر تباعدا .. والآن ماذا؟

رحل رفعت ، مخلّفا كنزا مما يمكن تصنيفه فى اعتقاي الشخصي كأفضل ما كُتب فى أدب الرعب بالعربية، إرث مغرٍ للغاية، تركة خصبة يمكن إعادة تدويرها فى أعمال - سينمائية أو تليفزيونية أو إذاعية حتى - ستستفيد بالضرورة من النجاح الذى حققته تلك الكتيبات المصفرة الأوراق سابقا، وقاعدتها الجماهيرية العريضة ويتحوّل كل هذا إلى بيزنس.

حبّا بالله، فلندع العجوز يرقد فى سلام، فبعيدا عن فشل التجربة فى العموم - عن تجربة تحويل الرويات لأعمال مرئية نتحدث - أو انتهائها على أحسن الفروض لنتائج هى أقل جودة من العمل الأصلي، رفعت اسماعيل كائن ورقي بحت، إذا حاولت انتزاعه من كتيبات أحمد خالد توفيق الصغيرة، سيتشوّه تماما .. دعك من أن تحويل الخيال لواقع غالبا ما يكون مٌخيبا للآمآل، فلا أعتقد أن د.خالد قد ترك لنا الكثير لنرسمه بخيالنا، لقد راعى الرجل وصف التفاصيل الدقيقة، بحيث لم يعد ثمّ مجال للاختلاف فى تصور العجوز العصبى الذى يشبه عصا المكنسة الصلعاء، ويدخن كقاطرة، ويحتفظ بعلبة أقراص النيتروجلسرين فى جيب حلّته الكحلية التى تجعله فاتنا.. لكن خروج رفعت للحياة فى عمل مرئى هو امتهان لشخصية لا ينبغى امتهانها، لا يمكن لأيا كان أن يؤدى رفعت، رفعت لا يؤديه إلا رفعت نفسه، وكفى.

هذا، بخلاف حسابات مواقع التواصل الاجتماعى التى تضاعفت خلال يومين بعد انتشار خبر موته، حسابات تحمل اسم رفعت وماجى وميدوسا، وقريبا عزّت وهن تشو كان والبقية، كل هذا بدا لوهلة طريفا، فعلى الصفحة المعنية بتنظيم حفل تأبين رفعت -بالمناسبة فكرة الصفحة بحد ذاتها لطيفة للغاية، التواجد هناك مٌريح فى حد ذاته - كان طريفا أن تجد تساؤلا من حساب باسم رفعت اسماعيل عمّا يحدث هنا، وتوبيخا من حساب آخر باسم ماجي ماكيلوب عن أنه مات دون أن يعلمها، كل هذا لطيف ومطمئن طالما استمد وجوده من تلك الوريقات المصفرة، طالما التزم القائمون على تلك الصفحات بقواعد اللعبة، طالما استمدوا عباراتهم اللطيفة من الكتيبات الصغيرة ، لكن الخوف كل الخوف من فكرة ال abuse الذى هو نمط حياة مصري خالص، سرعان ما ستجد مئات الحسابات باسم رفعت اسماعيل، وماجى والآخرين، ربما سيبدأ أحدها فى تبني موقف سياسي بعينه، أو إلقاء نكات سخيفة، و ربما يتجه أحدها لاجتذاب المتابعين بأغراض التعارف الشخصي .. أنت فى مصر يا عزيزى، حيث التشويه دستور الأشياء ..

لهذا، والنداء إلى من يهمّه الأمر وأحسبنا كثيرون، دعنا لا نبتذل تلك الكتيبات الصغيرة التى شكلت مراهقتنا وشبابنا، لا تفسدوهن يا أناندا .. لا تشوهوهن يا أناندا .. "اتركوا لي ما تبقى مني" أو كما قال .

* من قصيدة أمر طبيعي لتميم البرغوثي.


الخميس، 9 يناير 2014

عن الأب المثالي


لابد أن تقع فى غرامه من أول نظره، ملابسه الداخلية الممزقة التي يرتديها تحت البدلة فى زفاف ابنته، بيجامته المخططة الكلاسيكية جدا، وقلنسوته التى يظهر بها فى البيت، والتى تجعل من الصعب أن تأخذه على محمل الجد أحيانا، تفاصيل تدخل قلبك مباشرة تستقر هناك، واضعة مقاييسا جديدة عن الأب المثالي.

عن عبد المنعم مدبولي فى فيلم الحفيد أو "الأستاذ حسين" نتحدث ..

هو الرجل الذي يفضل معظم الوقت الحياة على الهامش ، متعاميا عما قد يمثل مصدر إزعاج مُحتمل، تراه طوال الأحداث جالسا فى الصالة أو فى حجرته ومن حوله صخب الزوجة - التى هي على النقيض تماما منه، مصدر إزعاج وطرف فاعل فى جميع المشاجرات المنزلية - والأبناء، متجاهلا كل هذا منهمكا فى جريدة ما أو فى "لضم" خيط فى إبرة لرتق أحد جواربه .. غير مُهتم حتى بمعرفة ما يدور من حوله ، وفى معظم الأحيان يتم الزج به فى الأحداث دون رغبة منه.

تنتهي لا مُبالاة "حسين" تلقائيا عندما يتعلق الأمر بدوره كعائل ورب أسرة، وبالرغم من تبرّمه المستمر مما يجده - من وجهة نظره الشخصية - غير ضروري بالمرة من طلبات الزوجة والأبناء، إلا أنّه لا يُقصّر مطلقا فى توفير أيا من تلك الطلبات، متكبدا فى ذلك ما يفوق إمكانياته المحدودة كموظف بسيط معظم الوقت..

تجده بالرغم من حرصه العام على عدم التورط فيما لا يعنيه، واعترافه بأن " ماما هى اللي مسؤولة عن البيت ده "، جالسا إلى السفرة مساء لمساعدة الصغار على المُذاكرة دون تبرّم، بالرغم من سنّه المتقدمة - فهو أب وجد - وكثرة أعبائه فى العموم.
وتجده بذات الأريحية، جالسا مع الجميع لمتابعة فيلم كرتون، باندهاش طفولي لا يقل عن اندهاش أصغر أطفاله سنّا.

 وهو - كما قد يصنّفه البعض - ليس تربويا بالدرجة الأولى، ولكنّه يعلم على وجه الدقة متى ينبغي له التراجع، وإفساح مجال لحيوات أبنائه، واعيا تماما لحقيقة يجدها معظم الآباء مزعجة فيتجاهلونها عمدا، وهي أن تلك الحيوات مُختلفة بالضرورة عن حياته، وأن هذا، إضافة لحتميته، فى الصالح العام.

سيعاكس صديقة ابنه الجميلة ويحاول لفت نظرها، ولكن دون انحطاط، سيعترف بجمالها لنفسه وسيقارنها بزوجته المترهلة، ولكن دون أن يؤذى مشاعرها -الزوجة - بشكل مباشر أو غير مُباشر حتى.

حسين، على عكس الأب كما عرفناه، فوجوده فى البيت لا يعني مطلقا ضجيج أقل أو انضباط أكثر، لا يعني أن على الأطفال المذاكرة أو التظاهر بالمذاكرة طوال الوقت، لا يعني أى شىء سوى كيان خفيف يمكن الاحتكام إليه عندما تتعقد الأمور لسبب أو لآخر مع "زينب" الزوجة الصارمة .. كيان تعلم أنّه سيتفهّم مواقف الجميع دون تحيّز،  ثم يُبدي رأيه دون أدنى حرص على أن يؤخذ به، قبل أن ينسحب إلى قوقعته مرة أخرى ..

لابد أن تعترف أن هذه هى نوعية الآباء التى تريدها، ليس عاطفيا دراميا يغدق الحب والأحضان دون مناسبة، ولا يمت بصلة للنموذج الشائع للأب المصري "السخيف" بكيانه الثقيل  المزعج، لابد أن تقولها بينك وبين نفسك مع انتهاء الفيلم " أنا عايز أب زى ده ".